فصل: تفسير الآيات (187- 188):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآية رقم (185):

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القرآن}: الشَّهْرُ: مشتقٌّ من الاشتهار.
قال: * ص *: الشهر مصْدَرُ: شَهَر يَشْهر، إِذا ظهر، وهو اسم للمدَّة الزمانيَّة، وقال الزجَّاج: الشَّهْر: الهلالُ، وقيل: سمِّي الشهْرُ باسمِ الهلالِ. انتهى.
ورَمَضَانُ: عَلِقَهُ هذا الاسمُ من مُدَّة كان فيها في الرَّمَضِ، وشدَّة الحَرِّ، وكان اسمه قبل ذلك نَاثراً.
واختلف في إنزال القرآن فيه، فقال الضَّحَّاك: أنزل في فَرْضِهِ، وتعظيمِهِ، والحضِّ عليه، وقيل: بدئ بنُزُوله فيه علَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال ابنُ عبَّاس فيما يؤثر: أنزل إِلى السماء الدنيا جملةً واحدةً ليلةَ أربعٍ وعشرينَ من رمَضَان، ثم كان جبريلُ ينزله رِسْلاً رِسْلاً في الأوامر، والنواهي، والأسباب، وروى وَاثِلَةٌ بن الأَسْقَعِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالتَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْهُ، وَالإِنْجيلُ لِثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَالْقُرْآنُ لأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ» و{هُدًى} في موضع نصبٍ على الحال من القُرآن، فالمراد أن القرآن بجملته مِنْ مُحْكَمٍ ومتشابِهٍ وناسخٍ ومنسوخٍ- هُدًى ثم شُرِّفَ، بالذِّكْر، والتخصيصِ البيناتُ منه، يعني: الحلالَ والحرامَ والمواعظَ والمُحْكَمَ كلّه، فالألفُ واللامُ في الهدى للعهْدِ، والمراد الأول.
قال: * ص *: {هُدًى}: منصوبٌ على الحال، أي: هادياً، فهو مصدرٌ وضع موضعَ اسم الفاعلِ، وذو الحال القُرآن، والعاملُ أنزل. انتهى.
و{الفرقان}: المُفَرِّق بين الحق والباطل، و{شَهِدَ}: بمعنى حَضَر، والتقدير: مَنْ حضر المِصْرَ في الشَّهْر، فالشهر نصْبٌ على الظرف.
وقوله سبحانه: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}.
قال مجاهد، والضَّحَّاك: اليُسْر: الفِطْر في السفر، والعسر: الصوم في السفر.
* ع *: والوجْهُ عمومُ اللفظِ في جميع أمورِ الدينِ، وقد فسر ذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ». قلتُ: قال ابْنُ الفاكهانيِّ في شرح الأربعينَ للنَّوويِّ: فإِن قلْتَ: قوله تعالى: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً..} [الشرح: 6] الآيةَ، يدلُّ على وقوع العُسْر قطعاً، وقوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} يدلُّ على نفي العسرِ قطعاً؛ لأن ما لا يريده تعالى، لا يكون بإجماع أهل السنة، قلْتُ: العسرُ المنفيُّ غير المثبت، فالمنفيُّ: إنما هو العسر في الأحكام، لا غير، فلا تعارض. انتهى.
وترجم البخاريُّ في صحيحه قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا»، وَكَانَ يُحِبُّ التَّخْفِيفَ وَاليُسْرَ عَلَى النَّاسِ. ثم أسند هو ومسلمٌ عن أنس، قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلاَ تْنَفِّرُوا» وأسند البخاريُّ ومسلم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال لأبِي موسى، ومعاذٍ: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا»
قال البخاريُّ: حدَّثنا أبو النعمان، قال: حدَّثنا حمَّاد بْنُ زَيْدٍ، عن الأزرقِ بْن قَيْسٍ. قال: «كُنَّا على شَاطِئ نَهْرٍ بِالأَهْوَاز قَدْ نَضَبَ عَنْهُ المَاءُ، فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ على فَرَسٍ، فصلى وخلى فَرَسَهُ، فانطلق الفَرَسُ فَتَرَكَ صَلاَتَهُ، وَتَبِعَهَا؛ حتى أَدْرَكَهَا، فَأَخَذَهَا، ثُمَّ جَاءَ، فقضى صَلاَتَهُ، وفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ، فَأَقْبَلَ يَقُولُ: انظروا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، تَرَكَ صَلاَتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ، فَأَقْبَلَ، فَقَالَ: مَا عَنَّفَنِي أَحَدٌ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَقَالَ: إِنَّ مَنْزِلِي مْنْزَاحٌ، فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُهُ، لَمْ آتِ أَهْلِي إِلَى اللَّيْلِ»، وذكَر أَنَّهُ قَدْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فرأى من تَيْسِيرِهِ. انتهى.
وقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة}: معناه: ولْيُكْمِلْ من أَفْطَرَ في سفره، أو في مرضه عدَّةَ الأيام التي أفطر فيها.
وقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله} حضٌّ على التكبير في آخر رمضان.
قال مالكٌ: وهو من حينِ يَخْرُجُ الرجلُ من منزله إِلى أنْ يخرج الإِمامُ إلى المصلى، ولفظه عند مالك وجماعةٍ من العلماء: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ؛ ثلاثاً.
ومن العلماء من يكبِّر، ويهلِّل، ويسبِّح أثناء التكبيرِ، ومنهم من يقول: اللَّه أكبر كبيراً، والحمدُ للَّهِ كَثيراً، وسبحانَ اللَّهِ بُكْرةً وأصيلاً، وقيل غير هذا. والجميعُ حسنٌ وَاسعٌ مع البداءة بالتكبير.
و{هَداكُمْ}: قيل: المرادُ: لِمَا ضَلَّ فيه النصارى من تبديلِ صيامِهِمْ، وتعميمُ الهدى جيدٌ.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ترجٍّ في حق البَشَر، أي: على نعم اللَّه في الهدى.
* ص *: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علَّةَ الترخيصِ والتيسيرِ، وهذا نوعٌ من اللَّفِّ لطيفُ المسلكِ انتهى.

.تفسير الآية رقم (186):

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
وقوله جلَّ وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ...} الآيةَ.
قال الحسنُ بْنُ أبي الحَسَن: سببُها أن قوماً قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيَهُ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيَهُ»، فنزلتِ الآية.
و{أُجِيبُ}: قال قومٌ: المعنى: أجيبُ إِن شئْتُ، وقال قوم: إِن اللَّه تعالى يجيب كلَّ الدعاء، فإِما أن تظهر الإِجابةُ في الدنيا، وإما أن يكفِّر عنه، وإِما أن يُدَّخَرَ له أجرٌ في الآخرة، وهذا بحَسَب حديثِ الموطَّإِ، وهو: «مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلاَّ كَانَ بَيْنَ إحدى ثَلاَثٍ...» الحديثَ.
* ت *: وليس هذا باختلاف قولٍ.
قال ابن رُشْدٍ في البيان: الدعاءُ عبادةٌ من العبادات يؤْجر فيها الأجر العظيم، أَجيبَتْ دعوته فيما دعا به، أو لم تُجَبْ، وهأنا أنقل، إِن شاء اللَّه، من صحيح الأحاديث في هذا المَحَلِّ ما يَثْلَجُ له الصَدْرُ، وعن أنسٍ رضي اللَّه عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَعْجِزُوا عَنِ الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَهْلِكَ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ» رواه الحاكم أبو عبد اللَّه في المُسْتَدْرَكِ على الصحيحين، وابن حِبَّانَ في صحيحه، واللفظ له، وقال الحاكم: صحيحُ الإِسناد، وعن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ: سِلاَحُ المُؤْمِنِ، وَعِمَادُ الدِّينِ، وَنُورُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ» رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيحٌ، وعن جابرِ بن عبدِ اللَّهِ- رضي اللَّه عنهما- عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَدْعُو اللَّهُ بِالمُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُوقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ: عَبْدِي، إِنِّي أَمَرْتُكَ؛ أَنْ تَدْعُونِي، وَوَعَدْتُّكَ أَنْ أَسْتَجِيبَ لَكَ، فَهَلْ كُنْتَ تَدْعُونِي، فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَمَا إِنَّكَ لَمْ تَدْعُنِي بِدَعْوَةٍ إِلاَّ استجبت لَكَ، أَلَيْسَ دَعَوْتَنِي يَوْمَ كَذَا وَكَذَا لِغَمٍّ نَزَلَ بِكَ؛ أَنْ أُفَرِّجَ عَنْكَ فَفَرَّجْتُ عَنْكَ؟! فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي عَجَّلْتُهَا لَكَ فِي الدُّنْيَا، وَدَعَوْتَنِي يَوْمَ كَذَا وَكَذَا لِغَمٍّ نَزَلَ بِكَ، أنْ أُفَرِّجَ عَنْكَ، فَلَمْ تَرَ فَرَجاً؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: إِنِّي ادخرت لَكَ بِهَا فِي الجَنَّةِ كَذَا وَكَذَا وكَذَا وَكَذَا، وَدَعَوْتَنِي فِي حَاجَةٍ أَقْضِيهَا لَكَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فَقَضَيْتُهَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي عَجَّلْتُهَا لَكَ فِي الدُّنْيَا، وَدَعَوْتَنِي فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي حَاجَةٍ أَقْضِيهَا لَكَ، فَلَمْ تَرَ قَضَاءَهَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: إِنِّي ادخرت لَكَ فِي الجَنَّةِ كَذَا وَكَذَا» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَلاَ يَدَعُ اللَّهُ دَعْوَةً دَعَا بِهَا عَبْدُهُ المُؤْمِنُ إِلاَّ بَيَّنَ لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ ادخر لَهُ فِي الآخِرَةِ، قَالَ: فَيَقُولُ المُؤْمِنُ فِي ذَلِكَ المَقَامِ: يَا لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ عُجِّلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ دُعَائِهِ»
، رواه الحاكم في المستدرك.
وعن ثَوْبَانَ- رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَرُدُّ القَدَرِ إِلاَّ الدُّعَاءُ»، رواه الحاكمُ في المستدرك وابنُ حِبَّانَ في صحيحه، واللفظ للحاكمِ، وقال: صحيحُ الإِسناد.
قلت: وقد أخرج ابن المبارك في رقائقه هذا الحديثَ أيضاً، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن عبد اللَّه بن عيس عن عبد اللَّه بن أبي الجَعْد، عن ثَوْبَان، قال: قَال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» انتهى.
وعن عائشةَ- رضي اللَّه عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مَنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإنَّ البَلاَءَ لَيَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ، فَيَعْتَلِجَانِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» رواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيحُ الإِسناد، وقوله؛ فَيَعْتَلِجَانِ، أي: يتصارعان.
وعن سَلْمَانِ- رضي اللَّه عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ عِنْدَ الكُرَبِ، وَالشَّدَائِدِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ»، رواه الحاكمُ أيضاً، وقال: صحيحُ الإِسناد، وعن ابْنِ عمر- رضي اللَّه عنهما- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ فُتِحَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ مِنْكُمْ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ»، قال الغَزَّالِيُّ- رحمه اللَّه- في كتابِ الإِحياء: «فإِن قُلْتَ: فما فائدةُ الدعاءِ، والقضاءُ لا يُرَدُّ؟ فاعلمْ أنَّ من القضاءِ رَدَّ البلاء بالدعاءِ، فالدعاءُ سببٌ لردِّ البلاء، واستجلابٌ للرحمة؛ كما أن التُّرْس سبب لردِّ السهم، ثم في الدعاءِ من الفائدة أنه يستدْعِي حضورَ القَلْب، مع اللَّه عزَّ وجلَّ، وذلك منتهى العبادَاتِ، فالدعاءُ يردُّ القلْبَ إِلى اللَّه عز وجلَّ بالتضرُّع والاستكانةِ»، فانظره، فإِني اثرت الاختصار، وانظر سِلاَحَ المُؤْمن الذي منه نقلْتُ هذه الأحاديثَ.
ومن جامع الترمذيِّ. عن أبي خُزَامَةَ، واسمه رفَاعَةُ، عن أبِيهِ، قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا، وَدَوَاءً نتداوى بِهِ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئاً؟ «قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ»؛ قال أبو عيسى: هذا حديث حسنً صحيحٌ.
وانظر جوابَ عمر لأبي عُبَيْدة «نَعَمْ، نَفِرُّ من قدر اللَّه إِلى قدر اللَّه...» الحديث هو من هذا المعنى. انتهى، واللَّه الموفق بفضله.
وقوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} قال أبو رجاء الخُرَاسانِيُّ: معناه: {فَلْيَدْعُونِي}
قال * ع *: المعنى: فليطلبوا أن أجيبهم، وهذا هو بابُ استفعل، أي: طلب الشيء إِلا ما شَذَّ؛ مثل: استغنى اللَّهُ.
وقال مجاهد وغيره: المعنى: فليجيبوا لي فيما دعوتهم إِلَيْه من الإِيمان، أي: بالطاعة، والعملِ.
فائدةٌ: قال صاحب غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأَعْظَم وهو إِمام عارفٌ بعلْمِ الحديث، وكتابه هذا يَشْهَدُ له، قال: ذكر الدِّينَوَرِيُّ في كتاب المُجَالَسَة، عن ليثِ بنِ سُلَيْمٍ؛ أن رجلاً وقَفَ على قوم، فقال: مَنْ عنده ضيافةٌ هذه الليلةَ، فسكَتَ القومُ، ثم عاد، فقالَ رجُلٌ أعمى: عندي، فذَهَبَ بِهِ إلى منزله، فعشَّاه، ثم حدَّثه ساعةً، ثم وضع لهُ وَضُوءاً، فقام الرجُلُ في جَوْف اللَّيْلِ، فتوضَّأ، وصلى ما قُضِيَ له، ثم جَعَلَ يدعو، فانتبه الأعمى، وجَعَلَ يسمع لدْعَائِهِ، فقال: اللَّهُمَّ، ربَّ الأرواحِ الفانيةِ، والأجسادِ الباليةِ، أسألُكَ بطَاعَةِ الأرواحِ الرَّاجعَةِ إلى أجسادها، وبطاعةِ الأَجْسَادِ الملتئمَةِ في عروقها، وبطاعة القُبُور المتشقِّقة عن أهلها، وبدَعْوتِكَ الصادقةِ فيهم، وأخذِكَ الحقَّ منهم، وتبريز الخلائقِ كلِّهم من مخافَتِكَ ينتظرُونَ قضاءَكَ، ويرْجُون رحمتَكَ، ويخافُونَ عذابَكَ، أَسأَلُك أنْ تَجْعَلَ النُّور في بَصَري، والإِخلاصَ في عَمَلِي، وشُكْرَكَ في قَلْبِي، وذِكْرَكَ في لِسَانِي في الليلِ والنهارِ، ما أبقيتَنِي، قال: فَحَفِظَ الأعمى هذا الدعاءَ، ثم قَامَ، فَتَوضَّأ، وصلى ركعتَيْنِ، ودعا به فأصْبَحَ قدْ رَد اللَّهُ عليه بَصَرَهُ. انتهى من غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأعظَم، وإِطلاَقُ الفناءِ على الأرواحِ فيه تجوُّز، والعقيدةُ أن الأرواح باقيةٌ لا تفنى، وإِنَّما عبر عن مفارقتها لأجسادها بالفَنَاءِ، هذا هو مراده.
وروى ابنُ المبارك في رقائقه بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قَالَ: «إِنَّ القُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، وَبَعْضُهَا أوعى مِنْ بَعْضٍ، فادعوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، حِينَ تَدْعُونَ، وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ» انتهى.
قال ابن عطاء اللَّهِ في لطائفِ المِننِ: وإِذا أراد اللَّه أن يعطِيَ عبداً شيئاً وهبه الاضطرار إِلَيْهِ فيه، فيطلبه بالاِضطرارِ، فيعطى، وإِذا أراد اللَّه أن يمنع عبداً أمراً، منعه الاضطرَار إِلَيْه فيه، ثم منعه إِياه، فلا يُخَافُ علَيْكَ أن تضطرَّ، وتطلب، فلا تعطى، بل يُخَافُ عليك أنْ تُحْرَمَ الاضطرارَ، فتحرم الطَّلَب، أو تَطْلُب بغير اضطرارٍ، فتحرم العطاء. انتهى.
وقوله سبحانه: {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي}، قال أبو رجاءٍ: في أنَّني أجيبُ دعاءهم، وقال غيره: بل ذلك دعاءٌ إِلى الإِيمان بجملته.

.تفسير الآيات (187- 188):

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام...} الآيةَ: لفظة {أُحِلَّ} تقتضي أنه كان محرَّماً قبل ذلك، و{لَيْلَةَ}: نصب على الظَّرْف.
و{الرفث}: كناية عن الجِمَاع؛ لأن اللَّه تعالى كريمٌ يُكَنِّي؛ قاله ابن عَبَّاس وغيره، والرَّفَثُ في غير هذا: ما فَحُشَ من القول، وقال أبو إِسْحَاق: الرَّفَثُ: كلُّ ما يأتيه الرجُلُ، مع المرأة من قُبْلةٍ، ولَمُسٍ.
* ع *: أو كلامٍ في هذا المعنى، وسببُ هذه الآيةِ فيما قال ابن عَبَّاس وغيره: إِن جماعةً من المسلمين اختانوا أنفُسَهُم، وأصابوا النِّسَاء بعد النَّوْم، أو بعد صلاة العشَاء على الخلافِ في ذلك، منْهم عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب: جاء إِلى امرأته، فأرادها، فقالَتْ له قد نِمْتُ، فَظَنَّ أنها تَعْتَلُّ بذلك، فوقع بها، ثم تحقَّق أنها قد كانت نامَتْ، وكان الوطْءُ بعد نَوْمِ أحدهما ممنوعاً، فذهب عُمَرُ، فاعتذر عنْدَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنَزَلَ صدْرُ الآية، وروي أن صِرْمَةَ بْنَ قَيْسٍ نام قَبْل الأكْلِ، فبقي كذلك دُونَ أكْلٍ، حتى غُشِيَ علَيْهِ في نهارِهِ المُقْبِلِ، فنَزَلَ فيه مَنْ قوله تعالى: {وَكُلُواْ واشربوا}.
واللِّبَاسُ: أصله في الثِّيَاب، ثم شبه التباس الرَّجُلٍ بالمرأةِ بذلك.
وتَابَ عَلَيْكُمْ، أي: من المعصية التي وقعتم فيها.
قال ابنُ عبَّاس وغيره: {باشروهن} كنايةٌ عن الجماعة، {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ}.
قال ابن عبَّاس وغيره: أي: ابتغوا الوَلَدَ، قال الفَخْر والمعنى: لا تباشروهن لقضاء الشهوة فقطْ، ولكنْ لابتغاء ما وَضَعَ اللَّه له النِّكاح من التناسُلِ، قال عليه السلام: «تَنَاكَحُوا، تَنَاسَلُوا؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ» انتهى.
وقيل: المعنى: ابتغوا ليلةَ القَدْرِ.
وقيل: ابتغوا الرُّخْصَة، والتوسعَةَ؛ قاله قتادة، وهو قول حَسَنٌ.
{وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ...} الآيةُ: نزلت بسبب صِرْمَةَ بْنِ قَيْسٍ، و{حتى}: غايةٌ للتبيُّن، ولا يصحُّ أن يقع التبيُّن لأحد، ويحرم عليه الأكل إِلا وقدْ مَضَى لطُلُوع الفجْرِ قدْرٌ، والخيط استعارةٌ وتشبيه لرقَّة البياضِ أولاً، ورقَّةُ السوادِ إِلحاقٌ به، والمرادُ فيما قال جميع العلماء: بياضُ النهارِ، وسوادُ الليل.
و{مِنَ} الأولى لابتداء الغايةِ، والثانيةُ للتبعيض، و{الفجر}: مأخوذ من تَفَجُّر الماء؛ لأنه ينفجر شيئاً بعد شيْء، وروي عن سَهْل بن سعدٍ وغيره من الصحَابة؛ أن الآية نزلَتْ إِلا قوله: {مِنَ الفجر}، فصنع بعض الناسِ خَيْطَيْنِ، أَبْيَضَ وأسْوَدَ، فنزَلَ قوله تعالى: {مِنَ الفجر}.
* ع *: ورُوِيَ؛ أنَّهُ كَانَ بَيْنَ طرفَيِ المُدَّة عامٌ من رمَضَان إِلى رمَضَان تأخّر البيان إِلى وقت الحاجة، وعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ جعل خيطَيْن على وسَادِهِ، وأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ». واختلف في الحدِّ الذي بتبيُّنه يجبُ الإِمساك، فقال الجمهورُ، وبه أخذ الناس، ومضَتْ عليه الأمصار والأعصار، ووردتْ به الأحاديثُ الصِّحَاحُ: إِنه الفَجْر المُعْتَرِضُ في الأُفُقِ يَمْنَةً ويَسْرَةً، فبطلوعِ أوله في الأفق يجبُ الإمساكُ، وروي عن عثمانَ بن عفَّان، وحذيفةَ بن اليَمَانِ، وابن عبَّاس وغيرهم؛ أن الإِمساك يجبُ بتبيُّن الفَجْر في الطُّرُق، وعلى رءوس الجبالِ، وذكر عن حُذَيفة؛ أنه قال: «تَسَحَّرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ النَّهارُ إِلاَّ أنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ».
ومن أكل، وهو يشكُّ في الفجر، فعليه القضاء عند مالك.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل} أمر يقتضي الوجوب، و{إلى}: غايةٌ، وإِذا كان ما بعدها من جنْسِ ما قبلها، فهو داخلٌ في حكمه، وإِذا كان من غير جنْسه، لم يدخلْ في المحدودِ، والليلُ: الذي يتم به الصيامُ: مَغِيبُ قرص الشمسِ، فمن أفطر شاكًّا في غروبها، فالمشهورُ من المَذْهَب؛ أنَّ عليه القضاءَ والكفَّارةَ.
وروى أبو هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «ثَلاَثةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، والإِمَامُ العَادِلُ، ودَعْوَةُ المَظْلُومِ، يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ تعالى: وَعِزَّتِي، لأَنْصُرَنَّكِ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» رواه الترمذيُّ، وابن ماجة، وابن حِبَّان في صحيحه، وقال الترمذيُّ: واللفظ له؛ حديثٌ حسنٌ، ولفظ ابن ماجة: حتى يُفْطِرَ. انتهى من السِّلاح.
وعنه صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَّا تُرَدُّ»، رواه ابنُ السُّنِّيِّ. انتهى من حِلْيَة النوويِّ.
وعنه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ» رواه البخاريُّ ومسلم. انتهى.
وروى ابنُ المبارك في رقائقه، قال: أخبرنا حمَّاد بن سَلَمَةَ، عن واصل مولى أبي عُيَيْنَة، عن لقيد أبِي المُغيرَةِ، عن أبي بُرْدَة: أنَّ أبا موسَى الأَشْعَرِيَّ كَانَ في سفينة في البَحْر مرفوعٍ شراعُها، فإِذا رجُلٌ يقول: يأَهْلَ السفينةِ، قِفُوا سبْعَ مرارٍ، فقلْنا: ألا ترى على أيِّ حالٍ نحْنُ، ثم قال في السابعة، قِفُوا أخبرْكُمْ بقضاءٍ قضاه اللَّه على نَفْسِهِ؛ أنَّه من عَطَّشَ نَفْسَهُ للَّهِ في يومٍ حارٍّ من أيامِ الدُّنْيَا شديدِ الحَرِّ، كان حقًّا على اللَّه أنْ يرويه يوم القيامة، فكان أبو موسى يبتغي اليَوْمَ الشَّديدَ الحَرِّ، فيصومه. انتهى.
قال يوسُفُ بن يَحْيَى التَّادِلِيُّ في كتاب التشوُّف، وخرَّج عبد الرزَّاق في مصنَّفه عن هشامِ بنِ حَسَّان، عن واصلِ بن لَقِيط، عن أبي بُرْدة، عن أبي موسَى الأشعريِّ، قَالَ: «غَزَا النَّاسُ بَرًّا وبحراً، فكنْتُ ممَّن غَزَا في البَحْر، فبينما نحْنُ نسيرُ في البَحْر؛ إِذ سمعنا صوتاً يقول: يأهل السفينة، قِفُوا أخبرْكُم، فنظرنا يميناً وشَمالاً، فلم نر شيئاً إِلا لُجَّةَ البحر، ثم نادى الثانيةَ؛ حتى نادى سبْعَ مراتٍ، يقول كذلك، قال أبو موسى: فلما كانَتِ السابعةُ، قُمْتُ، فقُلْتُ: ما تخبرنا؟ قال: أخبركم بقضاءٍ قضاه اللَّه على نَفْسِهِ؛ أنَّ من عَطِشَ للَّه في يوم حَارٍّ، أنْ يرويه اللَّه يوم القيامة»، وذكره ابن حَبِيب في الواضحة؛ بلفظ آخر.
انتهى.
قال ابن المبارك: وأخبرنا أبو بكر بن أبي مَرْيَم الغَسَّانيّ، قال: حدَّثني ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ، قال: قَالَ رَسُولُ الَّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ بَاباً، وإِنَّ بابَ العبادة الصيام» انتهى.
وروى البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ عَمَلِ ابن آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ: إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، إِنَّمَا يَدَعُ شَهْوتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي» انتهى.
وقوله تعالى: {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد} قالتْ فرقة: المعنى: ولا تجامعوهُنَّ، وقال الجمهور: ذلك يقع على الجِمَاعِ، فما دونه ممَّا يُتلذَّذ به من النساء، و{عاكفون}، أيْ: مُلاَزِمُون، قال مالكٌ- رحمه اللَّه- وجماعةٌ معه: لا اعتكاف إلا في مساجد الجُمُعَاتِ، وروي عن مالكٍ أيضاً؛ أنَّ ذلك في كل مسجدٍ، ويخرج إِلى الجُمُعة؛ كما يخرج إِلى ضروريِّ أشغالِهِ، قال ابن العربيِّ في أحكامه: وحرم اللَّه سبحانه المباشَرَةَ في المَسْجد؛ وكذلك تحرم خارجَ المَسْجِدِ؛ لأن معنى الآية، ولا تباشرُوهُنَّ وأنتم ملتزمون لِلاعتكاف في المساجد معتقدُونَ له. انتهى. و{تِلْكَ} إِشارةٌ إِلى هذه الأوامر والنواهِي.
والحُدُودُ: الحواجزُ بيْن الإِباحة والحظر؛ ومنه قيل للبوَّاب حَدَّاد؛ لأنه يمنع؛ ومنه الحَادُّ؛ لأنها تُمنع من الزينةِ، والآياتُ: العلاماتُ الهاديةُ إِلى الحق.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل...} الآية: الخطابُ لأمة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ويدخلُ في هذه الآيةِ القِمَارُ، والخُدَعُ، والغُصُوب، وجَحْد الحُقُوق، وغَيْرُ ذلك.
وقوله سبحانه: {وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام...} الآية: يقال: أَدْلَى الرَّجُلُ بحجَّة، أو بأمْر يرجُو النَّجاح به، تشبيهاً بالذي يرسل الدَّلْو في البِئْر يرجُو بها الماءَ، قال قومٌ: معنى الآية: تُسَارعون في الأموال إِلى المخاصَمَة، إِذا علمْتم أنَّ الحُجَّة تقوم لكم؛ إِمَّا بأن لا تكون على الجاحِدِ بيِّنة، أو يكون مالَ أمانةٍ؛ كاليتيم ونحوه ممَّا يكون القولُ فيه قوله، فالباء في {بِهَا} باءُ السبب، وقيل: معنى الآية: تُرْشُوا بهَا على أكْل أكثر منْها، فالباء إِلزاقٌ مجرَّدٌ؛ وهذا القول يترجَّح لأن الحكَّام مَظِنَّةُ الرُّشَا، إِلاَّ من عُصِمَ، وهو الأقل، وأيضاً، فإِن اللفظتين متناسبتَان.
{تُدْلُواْ}: من إِرسال الدلْوِ، والرِّشْوَةُ: من الرِّشَاءِ؛ كأنها يمدُّ بها؛ لتقضي الحاجة.
والفريقُ: القطْعة، والجزء.
و{بالإثم} أي: بالظلم.
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: أنكم مبطلون.